بينما يتهيأ المغرب لاحتضان نهائيات كأس الأمم الإفريقية 2025، لا يقتصر الرهان على التنظيم المحكم أو طموح التتويج القاري، بل يتجاوز ذلك إلى إبراز ثمرة مسار استراتيجي طويل أعاد تشكيل كرة القدم الوطنية من الجذور. وفي قلب هذا التحول، تبرز أكاديمية محمد السادس لكرة القدم كأحد أبرز عناوين "النهضة الكروية المغربية" ومصدر رئيسي للجيل الذي يقود اليوم طموحات المنتخب الوطني.
يقدم الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (كاف) التجربة المغربية، معتبرًا أن ما يعيشه "أسود الأطلس" ليس نتاج لحظة عابرة، بل حصيلة مشروع مؤسساتي صلب، صاغ هوية كروية واضحة، ونجح في تحويل التكوين إلى رافعة سيادية للتفوق القاري. ويذكر "الكاف" ضمن مقال بعنوان: "داخل ثورة كرة القدم في المغرب: الأكاديمية التي تُخرّج نجوم كأس الأمم الإفريقية"، بأن خمسة لاعبين من تشكيلة وليد الركراكي في كأس الأمم الإفريقية، هم نايف أكرد، عز الدين أوناحي، أسامة تارغالين، يوسف النصيري، وعبد الحميد آيت بودلال، جميعهم تخرجوا من هذه الأكاديمية؛ سلك كلٌّ منهم مسارًا مختلفًا، من قلب الدفاع إلى فنون خط الوسط وصولًا إلى تسجيل الأهداف، لكن يجمعهم التعليم الكروي نفسه والرؤية الوطنية المشتركة. وبحسب "الكاف" لم يكن صعود هؤلاء وليد الصدفة، بل "ثمرة مشروع طويل الأمد بدأ قبل نحو عقدين من الزمن، بُني من الصفر، ويُنظر إليه اليوم على نطاق واسع كواحد من أهم مصانع المواهب في القارة". يؤكد طارق الخزري، رئيس قسم استقطاب المواهب في الأكاديمية، أن هذه المؤسسة لم تنشأ صدفةً، بل عن قصدٍ وتخطيطٍ مُسبق، ويقول: "كانت أكاديمية محمد السادس ثمرة رؤيةٍ ومبادرةٍ ملكيةٍ من جلالة الملك محمد السادس". ومن النادر حتى في عالم كرة القدم أن تنشأ أكاديميةٌ من إستراتيجيةٍ على مستوى الدولة بدلاً من حاجةٍ ملحةٍ لأحد الأندية، ومع ذلك فإن طموح المغرب الراسخ لتحديث منظومة كرة القدم لديه استلزم نظاماً قادراً على إنتاج لاعبين من النخبة باستمرارٍ لا بشكلٍ متقطعٍ. وقد أُسند هذا التحدي إلى المدرب المغربي الفرنسي ناصر لارغيت عندما أصبح أول مديرٍ فنيٍّ للأكاديمية، ويتذكر قائلاً: "وصلتُ إلى هنا بصفحةٍ بيضاء، في مشروعٍ قاده جلالة الملك". كانت المهمة جسيمة: تصميم مؤسسةٍ قبل تصميم لاعبي كرة قدم. بين عامي 2008 و2010 كان لا بد من وضع كل شيء – الخطة المعمارية، والمنهج الرياضي، والنموذج التعليمي، ومسار الاختيار. جال لارغيت البلاد، مُتابعًا أكثر من 15000 طفل، لم يختر منهم سوى 38. كانت عملية قاسية، نعم، لكنها كانت هادفة. وفي غضون عامين أصبحت النتائج واضحة لا لبس فيها. يقول لارغيت : "في العام الثاني انضم لاعبو الأكاديمية إلى فرق تحت 18 عامًا، وتحت 20 عامًا، والفرق الأولمبية". بصمات الأكاديمية واضحة الآن في تشكيلة المنتخب المغربي لكأس الأمم الإفريقية، ويصفها الخزري بأنها هوية مميزة، موردا: "اليوم يتحدث الناس عن علامة أكاديمية المغرب لكرة القدم الأصيلة". وبحسب "الكاف" لا تقتصر هذه العلامة على الدقة الفنية فحسب، كالثبات تحت الضغط والذكاء في المساحات الضيقة، بل تتجلى أيضًا في روح الفريق التي أصبحت سمة مميزة للأكاديمية، ويتابع: "هناك تواضع في عملهم وإدراك واضح بأنهم يمثلون شيئًا أكبر من مجرد الفرد". ويجسد نايف أكرد، قلب الدفاع الهادئ، هذه المسؤولية، ويمنح عز الدين أوناحي المغرب إيقاعه، متحكمًا في وتيرة اللعب بأناقة تذكرنا بصانعي الألعاب الكلاسيكيين، ويوفر ترغالين التوازن والتنظيم في خط الوسط؛ أما النصيري، الذي كان موهوبًا وسريعًا عند انضمامه لأول مرة في سن المراهقة، فقد طور ذكاءً رياضيًا جعله الآن مهاجمًا حاسمًا في المباريات الكبيرة، فيما يمثل آيت بودلال استمراراً للخطّ، جيلاً جديداً تشكّل على المعايير نفسها. يؤكد الخزري أن نجاح الأكاديمية لا يُقاس بعدد اللاعبين المحترفين أو الانتقالات الأوروبية، ويقول: "يُقاس نضج أي نموذج بقدرته على إنتاج لاعبين أساسيين وقادة في بيئات تنافسية عالية، وليس فقط لاعبين محترفين"، وبالنسبة له ليس اكتشاف المواهب هو النجاح بحد ذاته، بل الاستمرارية. ويضيف المتحدث ذاته: "لا يُحسم الرهان عند اكتشاف اللاعب أو التعاقد معه، بل عندما يُثبت مستواه مع ناديه والمنتخب الوطني الأول، على مر الزمن". وتشير الأرقام إلى نجاح النموذج، فمن بين 57 لاعبًا تخرجوا من الأكاديمية خلال فترة لارغيت أصبح 47 لاعبًا محترفين، وانتقل 15 منهم إلى أوروبا، وشارك العديد منهم في بطولات كأس العالم والألعاب الأولمبية والعديد من بطولات كأس الأمم الإفريقية. لقد تطور نظام تطوير المواهب في المغرب من تجربة إلى مسار منظم ومحترم، وهو مسار يُدرس بشكل متزايد من قبل الاتحادات الإفريقية الأخرى. يلتحق الأطفال بالأكاديمية في سن التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة، ومعظمهم لا يُصبحون لاعبين محترفين. ويقول لارغيت إن الأكاديمية كانت دائمًا شفافة بشأن هذه الحقيقة، موردا: "تنتهي المسيرة الكروية في سن الثلاثين أو الخامسة والثلاثين، ويجب أن تتوقع ما سيأتي بعد ذلك". هذا الأساس التعليمي أفرز لاعبين قادرين على تحمل الضغوط، وتجاوز النكسات، وحمل تطلعات المنتخب الوطني دون أن يثقل كاهلهم.
إن نموذج أكاديمية محمد السادس لكرة القدم يمثل قصة نجاح ملهمة في عالم كرة القدم، حيث يجمع بين التخطيط الاستراتيجي، والرؤية الملكية، والتكوين الاحترافي، مما أثمر عن جيل من اللاعبين الموهوبين والقادرين على تمثيل المغرب على أعلى المستويات، والمساهمة في تحقيق طموحاته الكروية القارية والعالمية. إنه مشروع لا يقتصر على تخريج لاعبين، بل بناء مواطنين قادرين على حمل المسؤولية والتطلع نحو المستقبل.